فصل: خاتمة، وصية، نصيحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.خاتمة، وصية، نصيحة:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القران وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المتفق على صحتها عَنْهُ كالْبُخَارِيّ ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخَرَجَ المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ.
فمثلاً يجعل لمن حفظ القران على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أَوْ أزيد أَوْ أقل حسب حاله فِي الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان الْبُخَارِيّ ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف.
فإن عجزوا على حفظها، فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أَوْ الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين من الريالات، فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسُرْعَةِ استخراج ما أُرِيدَ من ذَلِكَ، وما أشكل معناه أَوْ يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنَّة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، أَوْ يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ ** كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتٍ

بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأََوَالِي ** لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَات

فمن وفقه الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أولاده بذَلِكَ كَانَ سبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنَ الله وَسَبَبًا لِبِرِّهِمْ بِهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ إذ ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببَا مبَارَكًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم، فيزيد الأجر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النِّيْة إنه القادر على ذَلِكَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
تَمَّ هَذَا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العليّ العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد أن يعز الإِسْلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين، وأن يلم شعث الْمُسْلِمِين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إِلَى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر، ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر، وأن يغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة:
فَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشيِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منَّا، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة:
عباد الله تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال واجتهدوا واستعدوا للرحيل فقَدْ قرب الارتحال ومهدوا لأنفسكم صالح الأَعْمَال فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذنت بالفراق، وإن الآخِرَة قَدْ أشرفت للتلاق فتزودا من دار الانتقَالَ إِلَى دار الْقَرَار.
واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال واحذروا التفاخر والتَّكَاثُر فِي الدُّنْيَا بجمَعَ الحطام واكتساب الآثام وَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والغموم والكربات وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات.
فسوف ترون ما لم يكن لكم فِي حساب إِذَا نوديتم من الأجداث حفاة عراة غُرلاً مهطعين إِلَى الداعي وتَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بين يدي رب العالمين وحل بكم كرب المقام، واشتد بالخلق فِي ذَلِكَ الموقف الزحام وأُخِذَ المجرمون بالنواصي والأقدام وبرزت جهنم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها والخزنة حولها غلاظ شداد.
وَيُنَادِي عَنْدَ ذَلِكَ العزيز الحميد الجبار فَيَقُولُ: هل امتلأت؟ وَتَقُول هل من مزيد. هنالك ينخلع قلبك وتتذكر ما فرطت فيه من الأوقات وتتندم ولات ساعة مندم، وتتمنى أن لو زيد فِي الحسنات وخفف من السيئات ولكن أنَّى لَكَ هَذَا وهيهات: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ ** تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحَ الضُّلُوعِ

عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُو ** عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيع

تُرَدِدُ صَوْتُ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا ** رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ

فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وأَدَالَ مِنْهُ ** غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ

عَجِبْتُ لَهَا تُكَلَّمُ وَهِي خَرْسَا ** وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ

فَهِمْتُ حَدِيثِهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي ** مِنَ الْخُسْرَان فِي أَمْرٍ شَنِيعٍ

أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا ** وَتَشْربُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ

وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي ** وَتَضْيِيعِ الْحَيَاةِ مَعَ الْمَضِيعِ

وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي ** لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعِ بِالنَّجِيعِ

أَلا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ ** وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ

لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا ** فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِنْ الدُّمُوع

اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فَصْل في بيان ضرر طول الأمل على الإنسان:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين وأيقظ قلوبنا وقلوبكم من الغَفْلَة وارزقنا وَإِيَّاكُمْ الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إِلَى الدار الباقية، أنَّ مِنْ أَضَرِّ ما على الإِنْسَان طول الأمل.
ومعنى ذَلِكَ استشعار طول البقاء فِي الدُّنْيَا حَتَّى يغلب على الْقَلْب وينسى أَنَّهُ مُهَدَّدٌ بالموت فِي كُلّ لحظة، ولابد منه وكل ما هُوَ آت قريب فتأهب لساعة وَدَاعَكَ من الدُّنْيَا وخروجك مَنْهَا.
وكن يَا أخي على حذر من مفاجأة الأجل فإنك عرض للآفات، وهدف منصوب لسهام الْمَنَايَا، وإنما رأس مالك الَّذِي يمكنكك إن وفقك الله أن تشتَرَي به سعادة الأبد هَذَا العمر.
قَالَ الله جل وعلا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} الآية، فإياك أن تنفق أوقات عمرك وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خَيْر فيه ولا منفعة فيطول حزنك وندامتك وتحسرك بعد موتك.
واجعل ما يلي من الآيات نصب عينيك دَائِمًا لتحثك على الإستعداد ليوم المعاد.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}.
وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}.
وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.
وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
وقوله تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} الآية.
وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}.
وقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}.
وقال جَلَّ وَعَلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}.
ونحو هَذِهِ الآيات التي مرت عَلَيْكَ فَإِنَّ كنت مؤمنًا حَقِيقَة فاشعر قلبك تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عَنْ قلبك الرَّاحَة والقرار فِي هَذِهِ الدار فتشتغل بالجد والاجتهاد والتشمير للعرض على الجبار.
وتفكر أَوَّلاً فيما يقرع سمَعَ سكَانَ القبور من شدة نفخ الصور، فَإِنَّهَا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عَنْ رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
قَالَ الله جل جلاله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}.
فتصور نفسك إنتبه يَا أخي لهَذَا الْيَوْم العَظِيم الَّذِي لَيْسَ عظمة مِمَّا يوصف، ولا هوله مِمَّا يكيف، ولا يجري على مقدار مِمَّا يعلم فِي الدُّنْيَا ويعرف، بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هوله إلا الله تبارك وتَعَالَى، وما ظنك بيوم عَبَّرَ الله تبارك وتَعَالَى عَنْهُ بَعْض ما يكون فيه بشَيْء عَظِيم. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}، وماذا عَسَى أن يَقُولُ القائل فيه وماذا عَسَى أن يصف الواصف به الأَمْر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قَالَ القائل:
وما عَسَى أنْ أَقُولَ أَوْ أَقُومُ بِهِ ** الأَمْر أَعْظَمُ مِمَّا قِيْل أَوْ وُصِفَا

وقَالَ آخر:
يَضْحَكُ الْمَرءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ** وَيَرُومُ الْبَقَاءَ وَالموتُ رَامَهْ

ويَمْشِي الْحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ** وَيُخْلِي حَدِيثُ يَومِ الْقِيَامَهْ

وَلأَمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ** وَنَفَى فِي الظَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ

صَاحَ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصْرهُ ** فَمُحَالٌ بِأنْ تُطِيقَ تَمَامَهُ

عَجِزَ الْوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ** لَمْ نَجِئْ مِن بحَارِهِ بِكضَامَهْ

فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ** وَدَعِ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ

فتصور نفسك وقَدْ خرجت من قبرك متغيرًا وجهك مغبرًا بدنك من تراب قبرك مبهوتًا من شدة الصعقة، قَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}.
وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الآية. وقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}.
وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}.
وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فتفكر فِي الخلائق ورعبهم وذلهم واستكانتهم عَنْدَ الانبعاث خوفًا من هَذِهِ الصعقة وانتظارًا لما يقضى عَلَيْهمْ من سعادة أَوْ شقاوة.
قَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.
مَنْ كَانَ يُوحِشْهُ تَبْدِيل مَنْزِلِهِ ** وَأَنْ يُبَدَّل مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا

مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا ** عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا

مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ ** فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا

يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ** وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا

وَلَمْ أَعُدْ مَكَانًا لِلنِّزَالِ وَلا ** أَعَدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا

إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا ** وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِن طَالِبِيهِ دَنَا

فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الجُوُدِ وَاكِفةٌ ** سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا

آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتُنَا ** وَأَلْطَفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا

نَحْنُ الْعُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا ** وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا

فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأسَاهَا وَشِدَّتِهَا ** أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا

اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، اغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فَصْل في فضل كثرة ذكر الموت:

وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عَنْ المعاصي وتلين الْقَلْب القاسي، وتذهب الفرح بالدُّنْيَا وزينتها وزخارفها ولذاتها.
وتحثك على الجد والاجتهاد فِي الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
قَالَ بَعْضهمْ: فضح الدُّنْيَا وَاللهِ هَذَا الموت فلم يترك فيها لذي عقلٍ فرحًا.
وقَالَ آخر: ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقَالَ آخر: من ذكر الموت هانَتْ عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا.
وقَالَ آخر: من لم يخفه فِي هَذِهِ الدار ربما تمناه فِي الآخِرَة فلا يؤتاه.
وقَالَ آخر يوصى أخًا لَهُ: يَا أخي احذر الموت فِي هَذِهِ الدار من قبل أن تصير إِلَى دارٍ تتمنى بها الموت فلا يوَجَدَ.
وقَالَ آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كَانَ أمرًا مقدارًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عَنْ دار الغرور، والاستعداد والإنابة إِلَى دار الخلود، والتفكير والنظر فيما تقدم عَلَيْهِ وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عَلَيْكَ مصائب الدُّنْيَا ويصغر عندك نوائبها، فَإِن كَانَ سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كَانَتْ الأُخْرَى كنت مأجورًا مَعَ النِّيْة الصَّالِحَة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعْلَمْ أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالْقَلْب وإقبالك على ما تذكره. قَالَ الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فأي فائدة لَكَ رَحِمَكَ اللهُ فِي تحريك لسانك إِذَا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الَّذِي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغَفْلَة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمَعَ لَهُ ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالاً حاضرًا بين يديك، وأن تنظر إِلَى كُلّ ما تحبه من الدُّنْيَا من ولدٍ أَوْ أَهْلِ أَوْ مالٍ أَوْ غير ذَلِكَ، فتعلم عِلْمًا لا يشوبه شك إِنَّكَ مفارقه فِي الحياة أَوْ فِي الْمَمَات، وهذه سُنَّة الله الجارية فِي خلقه وحكمه المطرد.
وتشعر هَذَا قلبك وتفرغ لَهُ نفسك فتمنعها بذَلِكَ عَنْ الميل إِلَى ذَلِكَ المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.
فَعُقْبَى كُلِّ شَيْءٍ نَحْنُ فِيهِ ** مِن الْجَمْعِ الْكَثِيفِ إِلَى شَتَاتِ

وَمَا حُزْنَاهُ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمٍ ** يُوَزَّعُ فِي الْبَنِينِ وَفِى الْبَنَاتِ

وَفِيمَنْ لَمْ نُؤَهِّلْهُُمْ بِفَلسٍ ** وَقِيمَةِ حَبَّةٍ قَبْلَ الْمَمَات

وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ ** وَقَدْ صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَاتِ

كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ ** وَلَمْ يَكُ فِيهِمْ خِلٌّ مُؤات

واعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أن مِمَّا يعينك على الفكرة فِي الموت ويفرغك لَهُ ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الَّذِينَ مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
كَانُوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كَانُوا عَلَيْهِ من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم وما كَانُوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كَانُوا فِي نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون.
وفى أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزَوَال، ولا يهمون بانتقَالَ، ولا يخطر الموت لَهُمْ على بال، قَدْ خدعتهم الدُّنْيَا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
فلم تزل تقرب لَهُمْ بعيدها، وترفع لَهُمْ مشيدها، وتلبسهم غضَّها وجديدها، حَتَّى إِذَا تمكنت مِنْهُمْ علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشف لَهُمْ حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.
فوثَبِّتْ عَلَيْهمْ وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قلة المختنق، فكم عَلَيْهمْ من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقُلُوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية، وأنشدوا فِي هذا المعنى:
وَرَيَّانَ مِنْ مَاء الشَّبَابِ إِذَا مَشَى ** يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ

تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ ** خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالِ تَصِيدُ

فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِم ** وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ

خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا ** فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ

وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءِ وَهِيَ بَعِيدَةُ ** وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهُوَ بَعِيدُ

أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ ** فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ

وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا ** وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ

كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَذَّة ** وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ

تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ ** فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ

فَصْلٌ:
ويروى أن إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام لما مَاتَ قَالَ الله جل جلاله: كيف وجدت الموت؟ قَالَ: كسفودٍ جعل فِي النار ثُمَّ أدخل فِي صوف رطب ثُمَّ جذب. فقَالَ الله تَعَالَى: أما إِنَا لَقَدْ هوناه عَلَيْكَ يَا إبراهيم.
ويروى عَنْ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام أنه لما صَارَت روحه إِلَى الله تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوَسى كيف وجدت الموت؟ فقَالَ: وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى فِي المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. ويروى عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ. ويروى أن عمر قَالَ لكعب الأحبار: حدثنا عَنْ الموت. فقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كغصن كثير الشوك أدخل فِي جوف رجل فأخذت كُلّ شوكة بعرق ثُمَّ جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى.
وقَالَ القرطبي: لتشديد الموت على الأَنْبِيَاء فائدتان أحدهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم ولَيْسَ ذَلِكَ نقصًا ولا عذابًا بل هُوَ كما جَاءَ أن أشد النَّاس بَلاءً الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل. وَالثَّانِيَة تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقَدْ يطلع الإِنْسَان على بَعْض الموتى فلا يرى عَلَيْهِ حركةً ولا قلقًا ويرى سهولة خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه.
فَلَمَّا ذكر الأَنْبِيَاء الصادقون فِي خبرهم شدة ألمه مَعَ كرامتهم على الله تَعَالَى قطع الخلق بشدة الموت الَّذِي تقاسيه مطلقًا لأخبار الصادقين عَنْهُ ما خلا الشهيد فِي سبيل الله. انتهى.
أخَرَجَ الطبراني عَنْ قتادة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة».
أخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا فِي المرض والكفارات وابن منيع فِي مسنده مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق تكلم به فِي أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار». قُلْتُ: بلى. قَالَ: «لا إله إلا الله يحيى ويميت وَهُوَ حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والْبِلاد والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كُلّ حال والله أكبر كبيرًا وكبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكَانَ. اللَّهُمَّ إن كنت أمرضتني لتقبض روحي فِي مرضي هَذَا فاجعل روحي فِي أرواح من سبقت لَهُمْ منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الَّذِينَ سبقت لَهُمْ منك الحسنى. فإن مت فِي مرضك ذَلِكَ فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قَدْ اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك».
وأخَرَجَ الطبراني عَنْ أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من قَالَ عَنْدَ موته: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلى العَظِيم لا تطعمه النار». وأخَرَجَ الحاكم عَنْ سعيد بن أبي وقاص أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم دُعَا يونس: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأَيُّمَا مُسْلِم دَعَا بِهَا فِي مرض موته أربعين مرة فمَاتَ فِي مرضه ذَلِكَ أعطى أجر شهيد وان برئ بَرئ مغفورًا لَهُ».
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي الْوَرَى سَتُعَذَّبُ ** فَنَاجٍ بِخَدْشٍ وَالْكَثِيرُ يُكَبْكَبُ

أَمَا يَسْتَحِي مَنْ كَانَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ ** ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ

وَتُجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ ** وَأَنْتَ بِمَا لا يُرْتَضَى كُلَّ لَيْلَةٍ

أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ فِي كُلِّ فِعْلَةِ ** تَبِيتُ بِِلَذَّاتِ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ

وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ** وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ

فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ ** أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِّهِ

وَأَنْتَ عَلَى كَنْزِ الْقَلِيلِ وَجِلِّهِ ** تُبَاهِي بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلَّهِ

وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي الْمَعَاصِي وَتُذْبِبُ ** وَتُعْرِضُ عَنْ فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي

فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدينِ الرَّضِي ** أَمَا تَرْعَوِي يَا مَنْ عَلَى لَهْوَهِ رَضِي

أَمَا الْعُمْرُ يَفْنَى وَالشَّبِيبَةَ تَنْقَضِي ** أَمَا الْعُمْرُ آتٍ وَالْمَنِيَّةَ تُطلبُ

فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْيَاكَ يَا الْغَدِي ** إِذَا أَضْحَكتكَ الْيَوْم أَبْكَتْكَ فِي الْغَدِي

أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُومُ لِمَرْغَدِي ** أَمَا تَذْكُر الْقَبْرَ الْوَحِيشَ وَلَحْدَهَ

بِهِ الْجِسْمُ مِنْ بَعْدِ الْعِمَارَةِ يَخْرَبُ ** وَتَقْتَتِلُ الدِّيدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ

وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي وَلا يَعِ عَوْلَهُ ** أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى الْعَزِيزَ وَطَوْلَهُ

أَمَا تَذْكُر الْيَوْمَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ ** وَمِيزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ

فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزَى رِجَالُهُ ** وَكُلٌّ يُجَازِي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ

وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَجَالُهُ ** أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ

إِذَا هَتَكَ الْعَبْدُ الْمَحَارِمَ يَغْضَبُ ** فَيَهْتِكُ سِتْرَ الظَّالِمِينَ بِغِرَّةٍ

وَكُلُّهُمُوا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ ** وَلاتَ مَنَاصٍ حِينَ جَادُوا بِعَبْرَةٍ

أَمَا الْوَاحِدُ الدَّيَّانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ ** يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ وَيَحْسِبُ

فَيُنْصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى ** وَيَقْصِمُهُ فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا

أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يَا مَنْ تَبَخْتَرَى ** أَمَا تَذْكُرُ الْمِيزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى

إِذَا كُنْتَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ مُكَبْكَبُ ** أَمَا تَمْشِين بَيْنَ الْوَرَى مُتَوَاضِعًا

أَمَا تَتَّقِي رَبًا آلاتُكَ خَاضِعًا ** أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا

كَأَنَّكَ مَا تَلْقَى عَلَى الأَرْضِ مَوْضِعًا ** وَمِنْ بَعْدِ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ

رَأَيْتُ وَلَمْ تَشْعُرْ نَذِيرًا وَنَاهِيًا ** وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيَا

سَهِرْتَ وَآثَرْتَ الْغِنَى وَمَلاهِيًا ** تَرُوحُ وَتَغْدُو فِي مُرَاحِكَ لاهِيًا

وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ الْمَنِيَّةِ تَنْشبُ ** أَتَحْسَبُ أَنَّ اللهَ أَنْشَى الْوَرَى سُدَى

سَيَأْتِيكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدَا ** وَتُنْزَعُ رَوْحٌ تَبْقَى مُجَسَّدَا

وَتَبْقَى صَرِيعًا فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا ** وَجِسْمُكَ مِنْ حَرٍّ بِهِ يَتَلَهَّبُ

وَمَالَكَ عَنْ دَفْعِ الأَذِيَّةِ صَوْلَةٌ ** وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ الْمُقَدَّرُ حِيلَةٌ

تَنُوحُ وَتَبْكِى بِالدُّمُوعِ أَهْيَلَة ** وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِفَارٌ وَعَوْلَةٌ

بِهِمْ بَعْدَ مَغْذَاكَ الْبَنُونُ تَشَعَّبُ ** أَيَادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَى وَيَسْرَةً

وَكُنْتَ رَهِينًا لِلْمَنَايَا وَقَسْرَةً ** وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى البَهَا وَمَسَرَّةً

وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً ** وَخَلَّفْتَ لِلْوُارَّثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ

وَتَسْعَى لَهُ مِنْ تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ ** وَتَسْهَرُ لَوْ فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوصِلُ

وَبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلٍ ** تُعَالُجَ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ

فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ ** وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُّوحُ بَعْدَ مُرُوجِهَا

وَأَنْزَلْتَ عِنْدَ الْبَابِ بَعْدَ بُرُوجِهَا ** وَقُرَّبتِ الأَكْفَانُ بَعْدَ عُرُوجِهَا

وَغُمِّضَتِ الْعَيْنَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا ** وَبُسِّطَتِ الرِّجْلان وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ

وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلنَّعْشِ يحْضِرُوا ** وَحَفَّارُ قَبْرٍ فِي الْمَقَابِرِ يَحْفُرُ

وَجَدَّ الَّذِي فِي حَوْلِ نَادِيكَ حُضَّرٌ ** وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازِكَ أَحْضَرُوا

حُنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا ** وَصَبُّوا عَلَيْكَ الْمَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ

وَحَنَّ قَرِيبٌ بِالْبُكَا وَرُبُوعُهُ ** وَكُلُّ شَقِيقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ

وَغَاسِكُكَ الْمَحْزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ ** بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ

كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدْقُهُ مُتَفَرِّقٌ ** حَزِينٌ وَمِنْ مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ

وَكُلُّ رَحِيمٍ قَلْبُهُ مُتَحَرِّقٌ ** وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ

يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ ** وَجَاؤُوا بِأَثْوَابٍ وَطِيبٍ بِطَيِّهَا

وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا ** وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا

وَخَاطُوا الَّذِي يَحْتَاجُ وَأَخْرَجُوا ** طَرَأيِدَ لِلتَّحْزِيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوا

جَمِيعًا بِتَجْهَازٍ وَجِسْمِكَ أَدْرَجُوا ** وَأَلْقُوكَ فِيهَا بِيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا

عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوا ** وَشَالُوكَ مِنْ بَيْنِ الأَخِلا مُجَرَّدًا

وَمَالَكَ خَلْفًا قَدْ تَرَكْتَ وَخُرَّدَا ** وَصَلَّوْا وُقُوفًا ثُمَّ زَقَّوْكَ وُرَّدًا

وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا ** تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ

بَعِيدٌ عَلَى قُرْبِ الْمَدَى يَعْلَمُونَهُ ** وَسَائِلُكَ الْمُجْهَادُ لا يَسْمَعُونَهُ

وَقَبْرُكَ قَامُوا بَعْدَ ذَا يَسِمُونَهُ ** وَرَاحُوا لِمَّا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ

كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَلَيْهِ وَتَتْعَبُ ** وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرُ

وَجِسْمُكَ مَهْزُولٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ ** وَخَّلْفَتُه طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ

فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ ** وَخَفْ مِنْ جَحِيمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ

وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مُسْبِلا ** وَكُنْ صَالِحًا بَرًّا تَقِيًّا مُحْسَبْلا

وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَكُنْ مُتَكَرْبِلا ** وَجَانِبْ لِمَا يُرْدِيكَ فِي حُفْرَةِ الْبَلا

فَكُلٌّ يُجَازَى بِالَّذِي كَانَ يَكْسِبُ ** مَآكِلُ مَا نَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوَّتِنَا

شَبِيهُ حَرَامٍ وَالسَّمِيعُ لِصَوْتِنَا ** يُجَازِي بِعَدْلِ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا

إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ** فَكَيْفَ يَطِيبُ الْيَوْمَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ

وَقُدَّامُنَا قَبْرٌ بِهِ الْمَرْءُ أَلْكَنُ ** وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبَانُ مَأثمَّ أَلْسَنُ

وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وَأَعْكُنُ ** وَكَيْفَ يَطِيبُ الْعَيْشُ وَالْقَبْرَ مَسْكَنُ

بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ ** وَخَوْفٌ بِهِ حُزْنُ طَوِيلٌ وَرَعْشَةٌ

وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيبُكَ نَهْشَةٌ ** وَمُنْكَرُ إِذْ يَسْأَلْ يَهُلَكْ وَدَهْشَةٌ

وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ ** وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيَذْهَبُ

وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَوْمٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ ** أَلِيمٌ مَهُولٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ

عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ ** فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ

فَهَادِمُ لَذَّاتِ الْفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ ** فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً

وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ ** فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَعَسْمَةً

وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً ** وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهُ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ

وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُحَمَّدِي ** وَكُنْ بِي رَحِيمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلَى الْهُدَى

وَلا تُخْزِنِي فِي الْحَشْرِ وَأَطْلِقْ مُقَيَّدِي ** وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي

فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ ** وَجُودُكَ مَنَّانِي وَلَوْ كُنْتَ أَحْقَرَا

وَعَفْوَكَ رَجَا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا ** وَإِنِّي وَأَنْ كُنْتَ الْبَعِيدِ وَمِنْ وَرَى

فَمَا لِي إلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الْوَرَى ** عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ

وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوعِهَا ** مُجِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا

فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيمِ سَمِيعِهَا ** وَنَدْعُو بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا

وَخَاتِمَةِ الْعُمْرِ الَّتِي هِيَ أَطْلُبُ ** وَأَسْأَلُ طُولُ الدَّهْرِ مَا نَآءَ طَارِقُ

وَصَلِّ إِلَهِي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ ** وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا لاحَ كَوْكَبُ

وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دِيَاجِي لَيَالِهِ ** وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ

وَمَا أَمَّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلِّ وَالِهِ ** عَلَى أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيرِ وَآلِهِ

فَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًّا وَأَطْيَبُ ** وَأَكْمُلَ مَنْ حَلَّ الصَّفَا وَالْمُحَصَّبَا

وَأَحَلاُهُموا خَلْقًا وَخُلْقًا وَمَنْصِبَا ** وَأَصْحَابِهِ مَا اخْضَرَّ عُودٌ وَأَخْصَبَا

كَذَاكَ سَلامُ اللهِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا ** وَهَبَّتْ شَمَالٌ مَعَ جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ

آخر:
إِلَى كَمْ تَمَاى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ** وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إِلَى غَيْرَ يَقْظَةِ

لَقَدْ شَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْهُ تُشْتَرَى ** بِمِلْءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ

أَيُنْفَقُ هَذَا فِي هَوَى هَذِهِ الَّتِي ** أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوَى جَنَاحَ بَعُوضَةِ

أَتَرْضَى مِن الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ ** مَعَ الْمَلا الأَعْلَى بِعَيْشِ الْبَهِيمَةِ

فَيَا دُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ** وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بِأَبْخَسِ قِيمَةِ

أَفَقٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً ** وَسُخْطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ

أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ** فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ

وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ** فَعَلْتَ لِمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَة

لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً ** وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ

أَلا فَاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ ** مِنْ الْخَلْقِ إِنْ كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيمَةِ

فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيحَةٌ ** يُعَدُّ عَلَيْهَا كُلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ

فُتِنْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا ** تُعَامِلْ فِي لَذَّتهِاَ بِالْخَدِيعَةِ

إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِيَ أَحْسَنَتْ ** أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بِالْكُدورَةِ

وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُونَ لَمْ تَنَلْ ** سِوَى لُقْمَةٍ فِي فِيكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ

وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بِالأَمَانِي وَلَمْ تَكُنْ ** وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ

فَدَعْهَا وَأَهْلِيهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ ** لِنَفْسِكَ عَنْهَا فَهُوَ كُلُّ غَنِيمَةِ

وَلا تَغْتَبِطْ مِنْهَا بِفَرَحَةِ سَاعَةٍ ** تَعُودُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيلَةِ

فَعَيْشُكَ فِيهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي ** كَعَيْشِكَ فِيهَا بَعْضُ يَوْمِ وَلَيْلَة

قَالَ بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ توعيظها: يَا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي فِي حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور قَدْ تشققت، وبالأمور وقَدْ تحققت، وبوجوه المتقين وقَدْ أشرقت، وبرؤوس العصاة وقَدْ أطرقت، قَالَ تَعَالَى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، يَا نفس أما الورعون فقَدْ جدوا، وأما الخائفون فقَدْ استعدوا، وأما الصالحون فقَدْ فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقَدْ نصحوا.
اللَّهُمَّ قوي إيمانَنَا بِكَ وَنَوِّر قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، اللَّهُمَّ يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْل:
عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم. فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا؟» قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ دعا باسمه الله الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى». أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن.
عَنْ سعيد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعي وَهُوَ فدى بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ». رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله، والله اكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ». رَوَاهُ الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: يَا ذا الجلال والإكرام فقال: «قَدْ استجيب لَكَ فسل». رَوَاهُ الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عَنْكَ، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك.
يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا، فإنك بالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْل من عفوك أحق منا بالَّذِي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لَنَا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عَنْ خلقك، واجعل خَيْر أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ أغننا بما وفقتنا لَهُ من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.
اللهم افتح مسامِعَ قلوبنا لذكرك وارزقنا طَاعَتكَ وطاعة رسولك وَوَفِّقْنَا للعمل بِكِتَابِكَ وسُنَّة رسولك.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البَلاء ومن سوء الِقَضَاءِ ومن شماتة الأعداء.
اللَّهُمَّ لَكَ الحمد كله، ولك الملك كله، بيدك الْخَيْر كله، واليك يرجع الأَمْر كله علانيته وسره، أَهْل الحمد والثناء أَنْتَ، لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا جميع ما سلف منا من الذُّنُوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، وَوَفِّقْنَا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللَّهُمَّ يَا سامَعَ كُلّ صوت، ويا بارئ النُّفُوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عَلَيْهِ الأصوات، يَا عَظِيم الشأن، يَا واضح البرهان، يَا من هُوَ كُلّ يوم فِي شأن، اغفر لَنَا ذنوبنا إِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يَا عَظِيم العفو، يَا واسع المغفرة، يَا قريب الرحمة، يَا ذا الجلال والإكرام، هب لَنَا العافية فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
اللَّهُمَّ يَا حي ويَا قيوم فرغنا لما خلقتنا لَهُ، ولا تشغلنا بما تكلفت لَنَا به، وَاجْعَلْنَا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللَّهُمَّ اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أَحَدَا.
اللَّهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لَنَا اليقين الَّذِي لا تسكن النُّفُوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللَّهُمَّ يَا عليم يَا حليم يَا قوي يَا عزيز يَا ذا المن والعطاء والعز والكبرياء يَا من تعنوا لَهُ الوجوه وتخشع لَهُ الأصوات، وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وأكفنا بحلالك عَنْ حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا به رشدنا، وتعصمنا من كُلّ سوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ عَلَيْنَا ديننا وصحة أبداننا.
اللَّهُمَّ يَا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيْل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ اعتقنا من رق الذُّنُوب، وخلصنا من أشر النُّفُوس، واذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذُّنُوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مَعَ المرحومين من أوليائك، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللَّهُمَّ يَا فالق الحب والنوى، يَا منشئ الأجساد بعد البلى يَا مؤي المنقطعين إليه، يَا كافي المتوكلين عَلَيْهِ، انقطع الرجَاءَ إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إِنَّكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك قلبًا سَلِيمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخَيْر الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك باسمك الأعظم الأعز الأجل الأكرم الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت وَإِذَا سئلت به أعطيت، ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يَا من عنت لَهُ الوجوه، وخضعت لَهُ الرقاب، وخشعت لَهُ الأصوات، يَا ذا الجلال والإكرام، يَا حي يَا قيوم، يَا مالك الملك، يَا من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير، وبكل شَيْء عليم، لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نستغيث، ومن عذابك نستجير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نخشاك حَتَّى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تسمَعَ كلامنا، وتَرَى مكاننا، وتعلم سرنا، وعلانيتنا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْءٌ من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا، نسألك مسألة المسكين، ونبتها إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير.
اللَّهُمَّ يا من خضعت لَهُ رقابنا، وفاضت لَهُ عباراتنا، وذلت لَهُ أجسامنا، ورغمت لَهُ أنوفنا لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفًا يَا خَيْر المسؤلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك نفسًا مطمئنةً، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يَا أرأف الرائفين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك التَّوْفِيق لما تحبه من الأَعْمَال، ونسألك صدق التوكل عَلَيْكَ، وحُسْن الظَّنِ بك يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيةً، وعيشةً نقية، وميتةً سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين.
{اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التِي قدرت بها على جميع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التِي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.